السلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه
بدايةً، أُقَدِّمُ الشُّكْرَ لِمَعالِيَ الدكتورِ مُحمَّد سليمانَ الجاسرِ، رئيسِ البنكِ الإسلاميِّ للتنميةِ، وللدكتورةِ هِبَة أحمد، مديرةِ صُندوقِ التَّضامُنِ الإسلاميِّ للتنميَةِ، للدعوةِ الكريمةِ لِيَ للتحدُّثِ أمامَ هذا الحُضورِ المُباركِ.
وأبدأُ بقولِهِ تَعالَى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} آل عمران: 104.
إنَّ المملكةَ العربيَّةَ السعوديَّةَ بذلتْ، ولا تزالُ، جُهودًا لا تنقطِعُ في العَملِ الخيريِّ والإنسانيِّ على الصَّعيدَيْنِ المَحليِّ والدوليِّ. وهذهِ الجهودُ نابعةٌ مِنْ شُعورِ قادتِها وشعبِها بالمسؤوليَّةِ الأخلاقيَّةِ والإنسانيَّةِ؛ إذْ تُسْهِمُ المملكةُ في تقديمِ العَوْنِ والمساعدةِ للدُّولِ الفقيرةِ والناميةِ، وللمنظماتِ الإنسانيةِ الدوليةِ، بالإضافةِ إلى جُهودِها الداخليةِ في تطويرِ مَنظُومةِ الخِدْماتِ الاجتماعيةِ، كما تُوَفِّرُ الرِّعايةَ والحمايةَ لمؤسساتِ المجتمعِ المدنيِّ كيْ تَعْمَلَ في ظِلِّ المنظُومَةِ بشكلٍ سَلِسٍ يُيَسِّرُ لها تقديمَ برامِجِها ومشروعاتِها التنمويَّةِ والخَيِّرةِ.
ونباركُ الجهودَ المبذولةَ في مُنتدى التخفيفِ مِنْ وَطْأةِ الفقرِ- مُكافحةِ الفقرِ – بالتضامُنِ والتحالفاتِ والشَّراكاتِ بينَ منظماتِ المجتمعِ المدنيِّ في مُكافحةِ الفقرِ، والعملِ على إيجادِ مجتمعٍ واحدٍ متضامنٍ، والتركيزِ على إيجادِ فُرصِ العملِ مِنْ خلالِ ثَمانٍ وعِشرينَ جهةً إنمائيَّةً.
أيها الأخواتُ والإخوةُ:
ينطلقُ الإسلامُ في بنائِهِ للإنسانِ مِنْ رُؤيةٍ متكاملةٍ للطبيعةِ البشريَّةِ على أنَّها ذكيَّةٌ ومُفكرةٌ. فالإنسانُ في الإسلامِ ليسَ مُجَرَّدَ مخلُوقٍ كغيرِهِ مِنْ مخلوقاتِ اللهِ، وإنَّما هُو سيِّدُ هذهِ المخلوقاتِ بتكرِيمِ رّبِّهِ لهُ يومَ خَلَقَهُ، والعقلُ الإنسانيُّ هُو مَدْخَلُ الإنسانِ في الإسلامِ. وغايةُ الإنفاقِ الخيريِّ أنْ يُصْلِحَ أحْوالَ الناسِ وأنْ يعيشُوا مُطمئنينَ: عقائِدُهُمُ سليمةٌ وأَهْواؤُهُمُ مستقيمةٌ وأُمُورُهُمُ تسيرُ حسبَ الشَّرعِ. إنَّ نظامَ الإنفاقِ الخيريِّ في الإسلامِ تَدْخُلُ في عَناصِرِهِ مَدلُولاتُ الإحسانِ والصدقةِ والبِّرِّ وما إلَيْها؛ حيثُ شَرَعَ الإسلامُ وسائلَ متعددةً بعضُها إلزامِيٌّ كالزكاةِ لتحريرِ البشرِ مِنَ الفَقْرِ. والإسلامُ يدعُو إلى العملِ والكَسْبِ الشَّريفِ ما دامَ الإنسانُ قادرًا على ذَلِكَ، وتهيئةِ الفُرَصِ لهذا الإنسانِ ليُعْطِيَ ويُبْدِعَ، ولكنْ، إذا كانَ الإنسانُ عاجزًا وأَصبحَ فقيرًا لأسبابٍ طبيعيةٍ فإنَّ الإسلامَ كَلَّفَ القادرينَ بالإنفاقِ عَلى العاجِزينَ، وذلكَ اعتمادًا على بعضِ مبادئَ، مِنْها أَنَّ الإسلامَ يريدُ مُجتمعًا مُتماسكًا خاليًا مِنَ العداواتِ والأحقادِ والحَسدِ، مُجتمعًا فيهِ الصَّغيرُ يُوَقِّرُ الكبيرَ، ويَعْطُفُ فيهِ الكبيرُ على الصَّغيرِ، ويَرحَمُ القويُّ فيه الضَّعيفَ، مُجتمعًا يرحمُ كالجسدِ الواحدِ إذا اشتكى مِنْهُ عُضوٌ تداعَى له سائرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى، مُجتمعًا تسودُه المَحبَّةُ والأُلْفةُ والرحمةُ كدافعٍ لحركةِ الإنسانِ نحوَ فِعْلِ الخيرِ وبَذْلِ المعروفِ وتقديمِ الإيثارِ ونَبْذِ الأَثَرَةِ. فالإسلامُ ينظُرُ إلى المُجتمعِ على أَنَّهُ كيانٌ إنسانيٌّ مُتواصِلٌ مُتراحِمٌ؛ فالأسرةُ مِنْ خلالِ الإسلامِ تُحقِّقُ المقاصِدَ الصالحةَ للإنسانِ في هَذِهِ الحياةِ.
إنَّ الإنسانَ هُو أكْرمُ المخلوقاتِ عندَ اللهِ سبحانَهُ وتَعالَى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء: ٧٠)؛ لذا فإنَّ مِنْ حَقِّهِ أنْ يحيا حياةً حُرَّةً كريمةً، وأنْ تُهَيّأَ لَهُ الأسبابُ لعبادةِ رَبِّهِ وطاعتهِ، وأن تُصانَ حُقُوقُهُ، وأنْ تُكْفَلَ حُرِّياتُهُ، وأن يُحْتَرَمَ رَأيُهُ، وأنْ يَنالَ حُقُوقَهُ في التعليمِ والرعايةِ الصحيةِ والاجتماعيةِ، وتوفيرِ فُرَصِ العملِ واكتسابِ المعرفةِ.
ولقدْ وَضَعَ الإسلامُ نظامًا مُتميِّزًا يُقِرُّ بوجودِ التفاوتِ بينَ فِئاتِ المجتمعِ في الثَّرَواتِ والدُّخولِ نتيجةً للتفاوتِ في القُدراتِ والمواهِبِ.
والدَّخلُ وهُو ما يسعى إليهِ النظامُ الاقتصاديُّ في الإسلامِ مِنْ خلالِ تشْريعِ أدَواتٍ مِنْ أغراضِها الأصليةِ تَحقيقُ إشباعِ الحاجاتِ التي لمْ يتِمْ إشباعُها مِنْ خلالِ التوزيعِ الأوَّليِّ للثروةِ والدَّخلِ، وبالتالي رَفْعُ مُستوى الرفاهيَةِ الاقتصاديةِ لأفرادِ المجتمعِ.
ولعلَّ خيرَ مِثالٍ على ذَلكَ ما تقومُ بِهِ مؤسسةُ الملكِ فيصلٍ الخيريةُ مُنْذُ إنشائِها حَيْثُ أطلقتْ (بَرْنامَجَ الإنفاقِ الخيريِّ) الذي يُعدُّ مِنَ الدَّعائمِ الَّتي تستندُ إليها المُؤسسةُ في تَحقيقِ غاياتِها الإنسانيةِ التي تَصُبُّ في خِدمةِ الأُمَّتيْنِ العربيةِ والإسلاميةِ، بلْ والإنسانيةِ جَمْعاءَ؛ فَقَدْ تبنتْ تنفيذَ جُملَةٍ مِنَ البرامِجَ والمشروعاتِ الخيريَّةِ والإنفاقَ عليْها وتأهِيلَها، بِما في ذَلكَ النشاطُ العلميُّ والتعليميُّ، وأَوْجُهُ البِرِّ المُختلفَةُ، مِثْلُ تشييدِ المساجدِ، والمدارسِ، والمعاهدِ، والجامعاتِ، والمراكزِ الإسلاميَّةِ، ومراكزِ البحثِ العلميِّ، وتوفيرِ الخبراتِ الفنيَّةِ، وتقديمِ المعلوماتِ والمِنَحِ للباحثينَ والدارسينَ في شَتَّى العلومِ والدراساتِ لِتُتاحَ الفُرصَةُ للمسلمينَ في الاستزادةِ مِنْ ألوانِ المعرفةِ والثقافاتِ المختلفةِ والإسهامِ في بِناءِ النَّهضةِ العلميةِ العالميةِ، وإقامَةِ المشروعاتِ السكنيَّةِ للطُلَّابِ، ودَعْمِ بَرامِجَ الإصلاحِ الزِّراعِيِّ، وطباعَةِ الكُتُبِ، وإنشاءِ دُورِ رِعايةِ الأطفالِ المُعَوَّقِينَ، وإقامَةِ المستشفياتِ والمستوصفاتِ والمراكزِ الطبيَّةِ ودُورِ العلاجِ والرعايةِ والتأهيلِ، ودَعْمِ البُحوثِ الطبيةِ، والمساعدةِ في إنشاءِ الجمعياتِ الخيريَّةِ، ودَعْمِها لجمعياتِ البّرِّ، وتقديمِ المساعداتِ الَّتي تُسْهِمُ في رَفْعِ المستَوَى المعيشيِّ والاجتماعِيِّ والاقتصادِيِّ للأفرادِ في المجتمعاتِ الإسلاميَّةِ. والمَقامُ هُنا لا يَتَّسِعُ لِسَرْدِ جَميعِ ما قامَتْ بِه مؤسسةُ الملكِ فيصلٍ الخيريةُ مِنْ جُهودٍ وما أَنْشأَتْهُ مِنْ بَرامِجَ إغاثيَّةٍ، ولكنِّي سوفَ أُحاولُ اختصارَها جاهدًا:
لقدْ قامتِ المُؤسسةُ بتنفيذِ عِدَّةِ مشروعاتٍ في عددٍ مِنَ المُدنِ والقُرَى، وشَهِدتُ مَشرُوعَيْنِ نَوْعِيَّيْنِ في عَسِيرَ؛ أوَّلُهُما نفَّذتُه المؤسسةُ عامَ 1399 هـ/1979م، وهُو قَريةُ الملكِ فيصلٍ النموذجيَّةُ التي شَمَلَتْ توطينَ خَمْسٍ وسِتِّينَ أُسْرةً تمَّ نَقْلُها مِنْ قَريةِ الحَبلة التي كانتْ تُعانِي مِنْ عُزْلَةٍ تامَّةٍ ويعيشُ أَهلُها في وادٍ عميقٍ يبلغُ عُمْقُهُ مِنْ ثلاثَمائةٍ إلى خمسمائةِ مترٍ، ولم يَكُنْ لساكِنِي القريةِ مِنْ وَسيلةِ تَنَقُّلٍ إلا الحِبالُ يتسلقُونَ بها الجِبالَ، ومِنْ هُنا اكتسبتْ اسْمَها. وقد استُبْدِلَتِ الحِبالُ المتدلِّيةُ بالعرباتِ الكَهرُبائيةِ المُعلَّقةِ، مِمّا جَعلَ القريةَ مَعْلمًا سياحيًّا يرتادُه السائِحُونَ.
أمّا المشروعُ الثّانِيَ، فَهُو مشروعُ خيريةِ الفيصلِ في الحريضة بمُحافظةِ رجالِ ألمعَ؛ حيثُ قامتِ المؤسسةُ بإنشاءِ مِائَتَي وَحْدَةٍ سكنيةٍ على أرضٍ قُدِّرَتْ مِساحَتُها بثلاثمائةٍ وستينَ ألفَ مترٍ مُربعٍ لتوطينِ سُكانِها.
وقدْ زُوِّدَ المَشروعانِ بجميعِ المرافقِ والخِدْماتِ الضروريَّةِ للحياةِ؛ مِنْ مياهٍ، وكَهْرباءِ، وصَرْفٍ صِحِّيٍّ، ووسائلَ الاتصالِ، وشبكةِ الطُّرُقِ، والمساجدَ، والمراكِزَ التِّجاريَّةِ، والحدائقَ العامَّةِ، والخِدْماتِ الطبيةِ، والتعليميةِ.
ثُمَّ جائزةُ الملكِ فيصلٍ العالميةُ:
أٌنشئَتِ الجائزةُ عامَ ١٣٩٦هـ/ 1976م، وهِي نَمُوذجٌ للإنفاقِ الخيريِّ للأُمةِ الإسلاميةِ في تاريخِها المُعاصرِ، وهِي الواجِهَةُ الأُولَى التي ظهرتْ بها المؤسسةُ عَلى العالَمِ بِمَنْهَجِها المُتحَرِّرِ مِنَ المحدُوديَّةِ الإقليميَّةِ لِتنطَلِقَ إلى الأُفُقِ العالميِّ فَتُوجِّهَهُ بقَناعَةِ الواثقِ وتُرَحِّبَ بما يفيدُ الإسلامَ والمسلمينَ وشُعوبَ الأرضِ كافةً، دُون عصبيَّةٍ لِعِرْقٍ أوْ لَونٍ أوْ دِينٍ؛ لذا تميَّزتِ الجائزةُ مِنْ غَيرِها مِنَ الجوائزِ العالميةِ التي تتحرَّكُ انْجذابًا وتنافُرًا مَعَ العَواملِ المختلفةِ. وهِي تقومُ بتكريمِ العاملينَ لخدمةِ الإسلامِ وتقديرِ العلماءِ في الدراساتِ الإسلاميةِ، والأدبِ العربيِّ، والطبِّ والعُلومِ.
وهُناك مَركزُ الملكِ فيصلٍ للبُحوثِ والدِّراساتِ الإسلاميةِ:
فَفِي إطارِ شُموليَّةِ أهدافِ المؤسسةِ تَمَّ إنشاءُ مركزِ الملكِ فيصلٍ للبحوثِ والدراساتِ الإسلاميةِ لِيَأْخُذَ دَوْرَهُ بكفاءةٍ في تحقيقِ أهدافِ المؤسسةِ المتمثلَةِ في المُحافظةِ على التراثِ الإسلاميِّ والتعريفِ بِه، وخِدْمَةِ الحضارةِ الإسلاميةِ، ودَعْمِ البحوثِ والدراساتِ والنشاطاتِ الثقافيةِ والعلميةِ المختلفةِ؛ وذَلِكَ مِنْ خِلالِ الإسهامِ في إبرازِ دَوْرِ الحَضارةِ الإسلاميةِ وما قَدَّمَتْهُ للبشريَّةِ في شّتَّى الميادينِ، وما تَمَيَّزَتْ بِه مِنْ سائرِ الحضاراتِ، ودَعْمِ حَرَكَةِ البحثِ العِلميِّ، وتوفيرِ ما يَلْزَمُ لذلكَ مِنَ الكُتُبِ والمخطوطاتِ وأوعِيَةِ المعلوماتِ الأُخْرى الَّتي تُعِينُ الباحثينَ مَعَ تقديمِ التشجيعِ لَهُمْ عَلى الاستمرارِ في دُروبِ العطاءِ الَّتي مَهَّدَها الأجدادُ في عَصْرِ النهضةِ الإسلاميَّةِ؛ فهو مِنْبرٌ يُعبِّرُ عَنْ عَظَمَةِ الثقافةِ الإسلاميةِ والعربيةِ، وما يقومُ بِه مِنْ دَوْرٍ في التأثيرِ على طَلَبَةِ العِلمِ، ودَفْعِهِمْ إلى المُثابرةِ وبَذْلِ المزيدِ مِنَ الجُهدِ، وإيصالِ المعرفَةِ إلى أكْبَرَ عددٍ مِنَ الناسِ. ويهتمُّ المركزُ بإجراءِ العديدِ مِنَ البحوثِ والدراساتِ ذاتِ الطَّابَعِ المَرجِعيِّ التي تُغْنِيَ الفِكرَ والبحثَ العلميَّ مَعَ توفيرِ المعلوماتِ الموضوعيَّةِ المُتعلِّقةِ بالعُلومِ والمعارفِ المختلفةِ. كما يُسْهِمُ المركزُ في إعادةِ تقديمِ التراثِ الإسلاميِّ بمُختلِفِ فُروعِهِ في صُورةٍ تَحْفَظَهُ مِنْ أسبابِ الضَّياعِ والإهمالِ وذلكَ بإنشاءِ المكتباتِ المختلفةِ، مِثْلِ مكتبةِ المخطوطاتِ، وترجمةِ الدراساتِ والبحوثِ الَّتي تناسِبُ أهدافَ المركزِ إلى اللُّغاتِ الحَيَّةِ، وإنشاءِ قَواعدِ المعلوماتِ المتخصصةِ في مُختلفِ الموضوعاتِ ذاتِ الصِّلةِ باهتمامِ المركزِ واخْتصاصِهِ، خِدْمةً للباحثينَ والدارسينَ، وكذلكَ إقامَةُ المحاضراتِ والنَّدَواتِ والمؤتمراتِ والدَّوْراتِ التدريبيةِ العامَّةِ والمتخصصةِ التي تتناوَلُ القَضايا الحَضارِيَّةَ والموضوعاتِ الحيويَّةَ التي تَهِمُّ المُسلمينَ في حاضِرِهِمْ ومُستقبلِهِمْ وتَرْبُطُهُمْ بماضِيهِم العريقِ؛ مُتأَسِّيًا في ذلكَ بما قالَهُ المغفورُ لَهُ بإذنِ اللهِ الملكُ فَيصلُ في آخرِ لقاءٍ صحفيٍّ له قَبْلَ وفاتِهِ عِندَما سُئِلَ: كيفَ تَرَى المملكةَ العربيةَ السعوديةَ بَعْدَ خمسينَ عامًا، فأجابَ: “أَرَى المملكةَ العربيةَ السعوديةَ بَعْدَ خمسينَ عامًا مَصْدَرَ إشْعاعٍ للإنسانيةِ”.
وأمّا مشاريعُ المؤسسةِ الإنْفاقِيَّةُ:
فَتُرَكِّزُ مؤسسةُ الملكِ فيصلٍ الخيريةُ في أنشطتِها المختلفةِ على الثباتِ والصرفِ على المشاريعِ الخيريةِ بِنِسَبٍ مُعيَّنَةٍ مِنْ دَخْلِها مَعض استقْطاعِ نِسَبٍ أُخْرى لتنميةِ رأسِ المالِ لِمُحاولَةِ تعزيزِ الاستقرارِ والثباتِ والتَّوسُّعِ والاستمرارِ؛ حيثُ إنَّها لا تَعتمِدُ على التبرعاتِ مَصدرًا للدَّخلِ والصرفِ على المشاريعِ الخيريةِ مِنْ خِلالِهِ، بلْ تعتمدُ أساسًا على الدَّخلِ مِنَ المشاريعِ الاستثماريَّةِ الثابتةِ الَّتي مِنْ أَهَمِّها مشروعُ الفيصليةِ والمرافقُ الأخرى التابعةُ لَهُ. ولَقَدِ اتَّجهتِ المؤسسةُ مُؤخرًا في صَرْفِها على مشاريِعِها الخيريةِ إلى بَحْثِ إيجادِ وقفٍ تِجارِيٍّ لأيِّ مشروعٍ خيريٍّ جديدٍ تُقِيمُه ليكونَ مصدرًا ثابتًا يُمْكِنُ الصَّرْفُ مِنْهُ على هَذا المشروعِ ويُجنِّبُ القائمينَ عليه مُحاولاتِ الاستجداءِ وسُؤالَ الناسِ للمبالغِ الَّتي يحتاجُونَ إليها في المصاريفِ الجاريةِ لِتِلكَ المشاريعِ الخيريةِ التي تَقُومُ بها في جميعِ أنحاءِ العالمِ طِبقًا لأهدافِ المؤسسةِ.
والإنفاقُ الخيريُّ في المؤسسةِ يسيرُ وَفْقَ عِدَّةِ محاورَ، هِي:
توجيهُ الإنفاقِ الخيريِّ إلى المجالاتِ والمشروعاتِ التي تستطيعُ أنْ تُمِدَّ مَظَلَّةَ رعايَتِها وخِدْمَتِها وجَدْواها لِتُغَطِّيَ أكبرَ مِساحَةٍ مُمكنةٍ مِنْ احتياجاتِ الناسِ.
ثُمَّ مُراعاةُ المواقعِ الجغرافيةِ للمشروعاتِ استهدافًا للْحُلولِ في أماكنِ الحاجةِ إليها باعتبارِ العالمِ كُلِّهِ رُقعةً واحدةً يجبُ تَغْطيَتُها بإنجازاتِ الخيرِ كُلَّما استطاعتِ المؤسسةُ إلى ذلكَ سبيلًا.
ثُمَّ تجنيبُ هذا الحقلِ مِنْ أنشطةِ المؤسسةِ جَميعَ أنواعِ الدعايةِ، وتداعياتِ الحديثِ عَنِ المنجزاتِ والذّاتِ مُسترشِدَةً في عَمَلِها بتعاليمِ الإسلامِ الحنيفِ وبِقَولِ الحقِّ: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنَّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة: ٢٦٢.
ثُمَّ في مجالِ التعليمِ: فَلَقَدْ أنشأتْ مؤسسةُ الملكِ فيصلٍ الخيريةُ (جامِعَةَ الفيصلِ) الَّتي تحتفلُ هَذا العامَ بِمُرورِ خَمْسَةَ عَشَرَ عامًا عَلى إنْشائِها، وهِيَ جامِعَةٌ بحثيةٌ تَضُمُّ كلياتِ الطبِّ والهندسةِ وإدارةِ الأعمالِ والبرمجياتِ، ومُقْدِمَةٌ الآنَ على إنشاءِ كليةٍ عُليا للدراساتِ القانونيةِ والعلومِ السياسيةِ.
كَما أنْشَأتِ المؤسسةُ مدارِسَ الملكِ فيصلٍ للبنينَ والبناتِ تَشْمَلُ التعليمَ العامَ مِنْ مَرحلةِ الروضةِ إلى مَرحلةِ الثّانويةِ، واعْتَمَدَتِ المؤسسةُ بَرْنامَجًا لِلمِنَحِ الدراسيةِ لِلمُبَرَّزينِ مِنْ أبناءِ الأُمَّةِ الإسلاميةِ في التخصصاتِ العلميةِ والطبيةِ خارِجَ المملكةِ شَمَلَ مَصرُوفاتِهِمِ الشَّهرِيَّةَ ورُسُومَ دِراسَتِهِم وسَفَرِهِم مِنْ وإلى الجامعاتِ التي يَنتسبُونَ إليها.
وإذا ما قُمْنا باستعراضِ الرُّقْعَةِ الجُغرافيةِ التي شَمَلَها الإنفاقُ الخيريُّ للمؤسسةِ نَجِدُ أنَّها تُغَطِّي مَناطِقَ عَدِيدَةً مِنَ العالَمِ الإسلاميِّ والأقَلِّياتِ الإسلاميةِ، فَقَدْ أَسهمتِ المؤسسةُ في شَتَّى قاراتِ العالَمِ، وتُبَيِّنُ القائِمَةُ المُرفَقةُ بكَلِمَتِي المشاريعَ الَّتي مَوَّلَتها المؤسسةُ عَبْرَ السنينَ الماضيةِ.
الأخوات والأخوة:
لا يَفُوتُنِي هُنا أيضًا أَنْ أُشِيدَ بِدَورِ البنكِ الإسلاميِّ للتنميةِ وجُهُودِهِ في تَعزيزِ التنميةِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ في البُلْدانِ والمُجتمعاتِ الإسلاميةِ في جَميعِ أنحاءِ العالَمِ، وأَذْكُرُ هُنا – عَلى سبيلِ المثالِ لا الحَصْرَ – ما قامَ بِه البنكُ مِنْ مُبادَرةٍ لإنشاءِ (صُندوقِ تمْكينِ القُدسِ)، مِنْ خِلالِ صُندوقِ التَّضامُنِ الإسلاميِّ للتنميَةِ، وبالشَّراكَةِ مَعَ صُندوقِ ووَقْفِيَّةِ القُدسِ.
وتَهْدِفُ هَذِهِ المُبادَرَةُ إلى تقديمِ مَشرُوعاتٍ مُجتَمَعِيَّةٍ خيريَّةٍ وتنمويَّةٍ تُسْهِمُ في تَمْكينِ وتَعزيزِ صُمودِ المقدسيينَ والعَملِ على تحقيقِ التنميةِ في القطاعاتِ المُختلفةِ في المَدينةِ المَقْدِسِيَّةِ؛ بِما يُساعِدُ في الحِفاظِ على الهُوِيَّةِ الوطنيَّةِ والصُّمُودِ الفلسطينيِّ. كما يَهْدِفُ هَذا الصُّنْدُوقُ إلى تَعزيزِ التمْكينِ الاقتصاديِّ والتَّنْمَويِّ لِلقُدسِ والمَقْدِسِييِّنَ.
وأَخْتِمُ هُنا بِذِكْرِ واحدةٍ مِنْ أَهَمِّ المُبادراتِ الإنسانيَّةِ، هِيَ مُبادَرَةُ خادمِ الحَرمينِ الشريفينِ الملكِ سلمانَ بْنِ عَبدِ العزيزِ آلِ سُعودٍ – يحفَظُه اللهُ – حِينَ أَمَرَ، أَيَّدَهُ اللهُ، بِتَأسِيسِ (مَرْكَزِ الملكِ سلمانَ للإغاثةِ والأَعمالِ الإنسانيَّةِ)، وهُو ما جَعَلَ العَملَ الإنسانيَّ السُّعوديَّ يَزْدَهِرَ ويَشْهَدَ تَطوُّرًا عظيمًا، وتَتَوَحَّدَ على إِثْرِهِ مَسِيرَةُ العَمَلِ الإنسانِيِّ والإغاثِيِّ السُّعوديِّ، لِيُصْبِحَ المَركزُ مَظَلَّةً لِجميعِ الأعمالِ الإنسانيَّةِ والإغاثيَّةِ الخارجيَّةِ للمَملكةِ، وتَمْتَدَّ أيادِيِه البَيْضاءُ إلى أَصْقاعٍ مُتعدِّدَةٍ مِنَ العالَمِ الإنسانيِّ.
وَفَّقَ اللهُ الجميعَ إلى ما فِيهِ الخَيْرُ، وَوَهَبَهُمُ القُدْرَةَ على العَطاءِ مِنْ أَجْلِ تخفيفِ آلامِ الإنسانيَّةِ التي هِي اليومَ أَحْوجُ إلى التَّكافُلِ والتَّعاضُدِ والتَّماسُكِ في هَذا العالَمِ المُضطَّرِبِ.